كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبيّنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إذا قضى الله الأمر في السماء ضَربت الملائكةُ بأجنحتها خُضْعَانًا لقوله كأنَّه سلسلة على صفوان فإذا فُزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا: الذي قال الحق».
والمراد بالتاليات ما يتلونه من تسبيح وتقديس لله تعالى لأن ذلك التسبيح لما كان ملقنًا من لدن الله تعالى كان كلامهم بها تلاوة.
والتلاوة: القراءة، وتقدمت في قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان} في [البقرة: 102]، وقوله: {وإذا تليت عليهم آياته في} [الأنفال: 2].
والذكر ما يتذكر به مِن القرآن ونحوه، وتقدم في قوله: {وقالوا يا أيها الذي نُزّل عليه الذكر} في سورة [الحجر: 6].
وما تفيده الفاء من ترتيب معطوفها يجوز أن يكون ترتيبًا في الفضل بأن يراد أن الزجر وتلاوة الذكر أفضل من الصَّف لأن الاصطفاف مقدمة لها ووسيلة والوسيلة دون المتوسَّل إليه وأن تلاوة الذكر أفضل من الزجر باعتبار ما فيها من إصلاح المخلوقات المزجورة بتبليغ الشرائع إن كانت التلاوة تلاوة الوحي الموحَى به للرسل، أو بما تشتمل عليه التلاوة من تمجيد الله تعالى فإن الأعمال تتفاضل تارة بتفاضل متعلقاتها.
وقد جعل الله الملائكة قِسْمًا وسَطًا من أقسام الموجودات الثلاثة باعتبار التأثير والتأثر.
فأعظم الأقسام المؤثر الذي لا يتأثر وهو واجب الوجود سبحانه، وأدناها المتأثر الذي لا يُؤثر وهو سائر الأجسام، والمتوسط الذي يؤثر ويتأثر وهذا هو قسم المجرَّدات من الملائكة والأرواح فهي قابلة للأثر عن عالم الكبرياء الإِلهية وهي تباشر التأثير في عالم الأجسام.
وجِهةُ قابليتها الأثر من عالم الكبرياء مغايِرةٌ لجهة تأثيرها في عالم الأجسام وتصرفها فيها، فقوله: {فالزاجِراتِ زَجْرًا} إشارة إلى تأثيرها، وقوله: {فالتالِياتتِ ذِكرًا} إشارة إلى تأثرها بما يلقى إليها من أمر الله فتتلوه وتتعبّد بالعمل به.
وجملة {إنَّ إلهكم لَواحِدٌ} جواب القسم ومناط التأكيد صفة {واحد} لأن المخاطبين كانوا قد علموا أن لهم إلها ولكنهم جعلوه عدة آلهة فأبطل اعتقادهم بإثبات أنه واحد غير متعدد، وهذا إنما يقتضي نفي الإلهية عن المتعددين وأما اقتضاؤه تعيين الإلهية لله تعالى فذلك حاصل بأنهم لا ينكرون أن الله تعالى هو الربّ العظيم ولكنهم جعلوا له شركاء فحصل التعدد في مفهوم الإله فإذا بطل التعدد تعيّن انحصار الإلهية في ربّ واحد هو الله تعالى.
{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)}.
أتبع تأكيد الإِخبار عن وحدانية الله تعالى بالاستدلال على تحقيق ذلك الإِخبار لأن القسم لتأكيده لا يُقنع المخاطبين لأنهم مكذِّبون مَن بلّغ إليهم القَسَم، فالجملة استئناف بياني لبيان الإله الواحد مع إدماج الاستدلال على تعيينه بذكر ما هو من خصائصه المقتضي تفرده بالإلهية.
فقوله: {رَبُّ السمواتت والأرض} خبر لمبتدأ محذوف.
والتقدير: هو ربّ السماوات، أي إلهكم الواحد هو الذي تعرفونه بأنه ربّ السماوات والأرض إلى آخره.
فقوله: {رَبُّ السَّماواتتِ والأرضِ} خبر لمبتدأ محذوف جرَى حذفه على طريقة الاستعمال في حذف المسند إليه من الكلام الوارد بعد تقدم حديث عنه كما نبّه عليه صاحب المفتاح.
فإن المشركين مع غلوّهم في الشرك لم يتجرَّأوا على ادعاء الخالقية لأصنامهم ولا التصرف في العوالم العلوية، وكيف يبلغون إليها وهم لَقىً على وجه الأرض فكان تفرد الله بالخالقية أفحمَ حجةٍ عليهم في بطلان إلهية الأصنام.
وشمل {السَّماواتتِ والأرضضِ وما بينهُمَا} جميع العوالم المشهودة للناس بأجرامها وسكّانها والموجودات فيها.
وتخصيص {المَشارِقِ} بالذكر من بين ما بين السماوات والأرض لأنها أحوال مشهودة كل يوم.
وجمعْ {المَشارِقِ} باعتبار اختلاف مطلع الشمس في أيام نصف سنة دورتها وهي السنة الشمسية وهي مائة وثمانون شرقًا باعتبار أطوللِ نهار في السنة الشمسية وأقصرَه مكررة مرتين في السنة ابتداء من الرجوع الشّتوي إلى الرجوع الخَريفي، وهي مطالع متقاربة ليست متّحدة، فإن المشرق اسم لمكان شروق الشمس وهو ظهورها فإذا راعَوا الجهة دون الفصْل قالوا: المشرق، بالإِفراد، وإذا روعي الفصلان الشتاء والصيف قيل: رب المشرقين، على أن جمع المشارق قد يكون بمراعاة اختلاف المطالع في مبادئ الفصول الأربعة.
والآية صالحة للاعتبارين ليعتبر كل فريق من الناس بها على حسب مبالغ علمهم.
{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)}.
هذه الجملة تتنزل من جملة {رَبُّ السماواتت والأرض وما بينهما} [الصافات 5] منزلة الدليل على أنه رب السماوات.
واقتصر على ربوبية السماوات لأن ثبوتها يقتضي ربوبية الأرض بطريق الأوْلى.
وأدمج فيها منة على الناس بأن جعل لهم في السماء زينة الكواكب تروق أنظارهم فإن محاسن المناظر لذّة للناظرين قال تعالى: {ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون} [النحل: 6]، ومنة على المسلمين بأن جعل في تلك الكواكب حفظًا من تلقّي الشياطين للسمع فيما قضى الله أمره في العالم العلوي لقطع سبيل اطلاع الكهان على بعض ما سيحدث في الأرض فلا يفتنوا الناس في الإِسلام كما فتنوهم في الجاهلية، وليكون ذلك تشريفًا للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن قطعت الكهانة عند إرساله وللإِشارة إلى أن فيها منفعة عظيمة دينية وهي قطع دابر الشك في الوحي، كما أن فيها منفعة دنيوية وهي للزينة والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر.
و{الكواكب} الكريات السماوية التي تلمع في الليل عَدا الشمس والقمر.
وتسمى النجوم، وهي أقسام: منها العظيم، ومنها دونه، فمنها الكواكب السيارة، ومنها الثوابت، ومنها قِطع تدور حول الشمس.
وفي الكواكب حِكم منها أن تكون زينة للسماء في الليل فالكواكب هي التي بها زينت السماء.
فإضافة {زينة} إلى {الكواكِبِ} إن جعلتَ {زينة} مصدرًا بوزن فِعلة مثل نِسبة كانت من إضافة المصدر إلى فاعله، أي زانتها الكواكب أو إلى المفعول، أي بزينة الله الكواكب، أي جعلها زَيْنًا.
وإن جعلتَ {زينة} اسمًا لما يتزين به مثل قولنا: لِيقة لما تُلاق به الدَّواة، فالإِضافة حقيقية على معنى من الابتدائية، أي زينة حاصلة من الكواكب.
وأَيًّا مَّا كان فإقحام لفظ {زينة} تأكيد، والباء للسببية، أي زيَّنا السماء بسبب زينة الكواكب فكأنه قيل: إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب تزيينًا فكان {بزِينةٍ الكواكب} في قوّة: بالكواكب تزيينا، فقوله: {بِزينَةٍ} مصدر مؤكد لفعل {زَيَّنَّا} في المعنى ولكنْ حُوّل التعليق فجعل {زينة} هو المتعلق ب {زَيَّنَّا} ليفيد معنى التعليل ومعنى الإِضافة في تركيب واحد على طريقة الإِيجاز، لأنه قد علم أن الكواكب زينة من تعليقه بفعل {زيَّنَّا} من غير حاجة إلى إعادة {زينة} لولا ما قصد من معنى التعليل والتوكيد.
و{الدنيا} أصله وصف هو مؤنث الأدنى، أي القربى.
والمراد: قربها من الأرض، أي السماء الأولى من السماوات السبع.
ووصفها بالدنيا: إمَّا لأنها أدنى إلى الأرض من بقية السماوات، والسماء الدنيا على هذا هي الكرة التي تحيط بكرة الهواء الأرضية وهي ذات أبعاد عظيمة.
ومعنى تزيينها بالكواكب والشهب على هذا أن الله جعل الكواكب والشهب سابحة في مقعّر تلك الكرة على أبعاد مختلفة ووراء تلك الكرة السماوات السبع محيط بعضها ببعض في أبعاد لا يعلم مقدار سعتها إلا الله تعالى.
ونظام الكواكب المعبر عنه بالنظام الشمسي على هذا من أحوال السماء الدنيا، ولا مانع من هذا لأن هذه اصطلاحات، والقرآن صالح لها، ولم يأت لتدقيقها ولكنه لا ينافيها.
والسماء الدنيا على هذا هي التي وصفت في حديث الإِسراء بالأولى.
وإمّا لأن المراد بالسماء الدنيا الكرة الهوائية المحيطة بالأرض وليس فيها شيء من الكواكب ولا من الشهب وأن الكواكب والشهب في أفلاكها وهي السماوات الست والعرش، فعلى هذا يكون النظام الشمسي كله ليس من أحوال السماء الدنيا.
ومعنى تزيين السماء الدنيا بالكواكب والشهب على هذا الاحتمال أن الله تعالى جعل أديم السماء الدنيا قابلًا لاختراق أنوار الكواكب في نصف الكرة السماوية الذي يغشاه الظلام من تباعد نور الشمس عنه فتلوح أنوار الكواكب متلألئة في الليل فتكون تلك الأضواء زينة للسماء الدنيا تزدان بها.
والآية صالحة للاحتمالين لأنها لم يثبت فيها إلا أن السماء الدنيا تزدان بزينة الكواكب، وذلك لا يقتضي كون الكواكب سابحة في السماء الدنيا.
فالزينة متعلقة بالناس، والأشياء التي يزدان بها الناس مغايرة لهم منفصلة عنهم ومثله قولنا: ازدان البحر بأضواء القمر.
وقرأ الجمهور {بِزينَةِ الكواكِبِ} بإضافة {زينة} إلى {الكَواكِبِ} وقرأ حمزة {بزينةٍ الكواكب} بتنوين {زينة} وجر {الكَواكِبِ} على أن {الكواكب} بدل من {زينة}.
وقرأه أبو بكر عن عاصم بتنوين {زينةٍ} ونصب {الكَواكِبَ} على الاختصاص بتقدير: أعني.
وقد تقدم الكلام على زينة السماء بالكواكب وكونها حفظًا من الشياطين عند قوله تعالى: {ولقد جعلنا في السماء بروجًا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم} في سورة [الحجر: 16، 17].
وتقدم ذكر الكواكب في قوله: {رأى كوكبًا} في سورة [الأنعام: 76].
وانتصب {حفظًا} بالعطف على {بِزِينَةٍ الكواكِبِ} عطفًا على المعنى كما ذهب إليه في الكشاف وبَيَّنه ما بيَّناه آنفًا من أن قوله: {بِزِينَةٍ الكواكِبِ} في قوة أن يقال: بالكواكب زينةً، وعامله {زَيَّنَّا}.
والحفظ من الشياطين حكمة من حكم خلق الكواكب في علم الله تعالى لأن الكواكب خُلقت قبل استحقاق الشياطين الرجم فإن ذلك لم يحصل إلا بعد أن أُطرد إبليس من عالم الملائكة فلم يحصل شرط اتحاد المفعول لأجْله مع عامله في الوقت، وأبو علي الفارسي لا يرى اشتراط ذلك.
ولعل الزمخشري يتابعه على ذلك حيث جعله مفعولًا لأجله وهو الحق لأنه قد يكون على اعتباره علّة مقدرة كما جوز في الحال أن تكون مقدرة.
ولك أن تجعل {حفظًا} منصوبًا على المفعول المطلق الآتي بدلًا من فعله فيكون في تقدير: وحَفِظنا، عطفًا على {زَيَّنَّا} أي حفظنا بالكواكب من كل شيطان مارد.
وهذا قول المبرد.
والمحفوظ هو السماء، أي وحفظناها بالكواكب من كل شيطان.
وليس الذي به الحفظ هو جميع الذي به التزيين بل العلة موزعة فالذي هو زينة مشاهَد بالأبصار، والذي هو حفظ هو المبين بقوله: {فأتْبعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات 10].
ومعنى كون الكواكب حفظًا من الشياطين أن من جملة الكواكب الشهبَ التي تُرجم بها الشياطين عند محاولتها استراق السمع فتفرّ الشياطين خشية أن تصيبها لأنها إذا أصابت أشكالها اخترقتها فتفككت فلعلها تزول أشكالها بذلك التفكك فتنعدم بذلك قوام ماهيتها أو تتفرق لحظة لم تلتئم بعد فتتألَّم من ذلك الخرق والالتئام فإن تلك الشهب التي تلوح للناظر قطعًا لامعة مثل النجوم جارية في السماء إنما هي أجسام معدنية تدور حول الشمس وعندما تقرب إلى الأرض تتغلب عليها جاذبية الأرض فتنزعها من جاذبية الشمس فتنقضّ بسرعة نحو مرْكز الأرض ولشدة سرعة انقضاضها تولد في الجو الكروي حرارة كافية لإِحراق الصغار منها وتَحمَى الكبار منها إلى درجة من الحرارة توجب لمعانها وتسقط حتى تقع على الأرض في البحر غالبًا وربما وقعت على البَر، وقد يعثر عليها بعض الناس إذ يجدونها واقعة على الأرض قطعًا معدنية متفاوتة وربما أحرقت ما تصيبه من شجر أو منازل.
وقد أرخ نزول بعضها سنة (616) قبل ميلاد المسيح ببلاد الصين فكسر عدة مركبات وقتل رجالًا، وقد ذكرها العرب في شعرهم قبل الإِسلام قال دَوس بن حَجر يصف ثورًا وحشيًا:
فانقضّ كالدَّريّ يتبعه ** نقع يثور تخالُه طُنبا

وقال بشر بن خازم أبي خازم أنشده الجاحظ في الحيوان:
والعَيْرُ يُرهقها الخَبَارَ وَجَحْشُها ** ينقض خلفهما انقاضا الكواكب

وفي سنة (944) سجل مرور كريات نارية في الجو أحرقت بيوتًا عدة.
وسقطت بالقطر التونسي مرتين أو ثلاث مرات، منها قطعة سقطت في أوائل هذا القرن وسط المملكة أحسب أنها بجهات تالة ورأيت شظيّة منها تشبه الحديد، والعامة يحسبونها صاعقة ويسمّون ذلك حجر الصاعقة، وتساقطها يقع في الليل والنهار ولكنا لا نشاهد مرورها في النهار لأن شعاع الشمس يحجبها عن الأنظار.
ومما علمت من تدحرج هذه الشهب من فلك الشمس إلى فلك الأرض تبين لك سبب كونها من السماء الدنيا وسبب اتصالها بالأجرام الشيطانية الصاعدة من الأرض تتطلب الاتصال بالسماوات.
وقد سُميت شهبًا على التشبيه بقبس النار وهو الجمر، وقد تقدم في قوله تعالى: {أو آتيكم بشهاب قبس} في سورة [النمل: 7].
والمارد: الخارج عن الطاعة الذي لا يلابس الطاعة ساعة قال تعالى: {ومن أهل المدينة مردوا على النفاق} [التوبة: 101].
وفي وصفه بالمارد إشارة إلى أن ما يصيب إخوانه من الضرّ بالشهب لا يعظه عن تجديد محاولة الاستراق لما جبل عليه طبعه الشيطاني من المداومة على تلك السجايا الخبيثة كما لا ينزجر الفراش عن التهافت حول المصباح بما يصيب أطراف أجنحته من مسّ النار.
{لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)}.
اعتراض بين جملة {إنَّا زيَّنا السماء الدُّنيا} [الصافات 6] وجملة {فاستفتِهِم أهُم أشدُّ خلقًا} [الصافات 11] قصد منه وصف قصة طرد الشياطين.
وعلى تقدير قوله: {وَحِفْظًا} [الصافات 7] مصدرًا نائبًا مناب فعله يجوز جعل جملة {لاَ يَسمعُونَ} بيانًا لكيفية الحفظ فتكون الجملة في موقع عطف البيان من جملة {وحِفْظًَا} على حد قوله تعالى: {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك} [طه: 120] الآية، أي انتفى بذلك الحفظ سَمع الشياطين للملأ الأعلى.
وحرف {إلى} يشير إلى تضمين فعل {يَسَّمَّعُونَ} معنى ينتهون فيسمعون، أي لا يتركهم الرمي بالشهب منتهين إلى الملأ الأعلى انتهاء الطالب المكان المطلوب بل تدحرهم قبل وصولهم فلا يتلقفون من عِلم ما يجري في الملأ الأعلى الأشياء مخطوفة غير متبينة، وذلك أبعد لهم من أن يسمعوا لأنهم لا ينتهون فلا يسمعون.
وفي الكشاف: أن سمعت المعدّى بنفسه يفيد الإِدراك، وسمعت المعدّى ب {إلى} يفيد الإصغاء مع الإدراك.
وقرأ الجمهور: {لاَ يَسْمَعُونَ} بسكون السين وتخفيف الميم.
وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف {لا يسَّمَّعون} بتشديد السين وتشديد الميم مفتوحتين على أن أصله: لا يَتسمعون فقلبت التاء سينًا توصلًا إلى الإِدغام، والتسمع: تطلب السمع وتكلفه، فالمراد التسمع المباشر، وهو الذي يتهيأ له إذا بلغ المكان الذي تصل إليه أصوات الملأ الأعلى، أي أنهم يدحرون قبل وصولهم المكان المطلوب، والقراءتان في معنى واحد.
وما نقل عن أبي عبيد من التفرقة بينهما في المعنى والاستعمال لا يصح.
وحاصل معنى القراءتين أن الشهب تحول بين الشياطين وبين أن يسمعوا شيئًا من الملأ الأعلى وقد كانوا قبل البعثة المحمدية ربما اختطفوا الخطفة فألقوها إلى الكهان فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم قدر زيادة حراسة السماء بإرداف الكواكب بعضها ببعض حتى لا يرجع من خطف الخطفة سالمًا كما دلّ عليه قوله: {إلاَّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ} فالشهب كانت موجودة من قبل وكانت لا تحول بين الشياطين وبين تلقف أخبار مقطعة من الملأ الأعلى فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرمت الشياطين من ذلك.
و{الملأ} الجماعة أهل الشأن والقدر.
والمراد بهم هنا الملائكة.
ووصف {المَلإِ} ب {الأعلى} لتشريف الموصوف.
والقذف: الرجم، والجانب: الجهة، والدُّحور: الطرد.
وانتصب على أنه مفعول مطلق ل {يقذفون}.
وإسناد فعل {يُقذفون} للمجهول لأن القاذف معلوم وهم الملائكة الموكّلون بالحفظ المشار إليه في قوله تعالى: {وإنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسًا شديدًا وشُهُبًا} [الجن: 8].
والعذاب الواصب: الدائم يقال: وصب يصب وصوبًا، إذا دام.
والمعنى: أنهم يطردون في الدنيا ويحقرون ولهم عذاب دائم في الآخرة فإن الشياطين للنار {فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيًا} في سورة [مريم: 68]، ويجوز أن يكون المراد عذاب القذف وأنه واصب، أي لا ينفكّ عنهم كلما حاولوا الاستراق لأنهم مجبولون على محاولته.
وجملة {ولهم عذابٌ واصِبٌ} معترضة بين الجملة المشتملة على المستثنى منه وهي جملة {لا يسمعون إلى الملإ الأعلى} وبين الاستثناء.
و{من خطف الخطفة} مستثنى من ضمير {لا يسمعونَ} فهو في محل رفع على البدلية منه.
والخطف: ابتدار تناول شيء بسرعة، و{الخطفة} المرة منه.
فهو مفعول مطلق ل {خَطِفَ} لبيان عدد مرات المصدر، أي خطفة واحدة، وهو هنا مستعار للإِسراع بسمع ما يستطيعون سمعه من كلام غير تام كقوله تعالى: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} في سورة [البقرة: 20].
وأتبعه بمعنى تبعه فهمزته لا تفيده تعدية، وهي كهمزة أبان بمعنى بان.
والشهاب: القبس والجمر من النار.
والمراد به هنا ما يُسمّى بالنيزك في اصطلاح علم الهيئة، وتقدم في قوله: {فأتبعه شهاب مبين} في سورة [الحجر: 18].
والثاقب: الخارق، أي الذي يترك ثَقبًا في الجسم الذي يصيبه، أي ثاقب له.
وعن ابن عباس: الشهاب لا يقتل الشيطان الذي يصيبه ولكنه يحترق ويَخْبِل، أي يفسُد قِوامه فتزول خصائصه، فإن لم يضمحل فإنه يصبح غير قادر على محاولة اسْتراق السمع مرة أخرى، أي إلا من تمكّن من الدنوّ إلى محل يسمع فيه كلمات من كلمات الملأ الأعلى فيُردف بشهاب يثقبه فلا يرجع إلى حيث صدر، وهذا من خصائص ما بعد البعثة المحمدية.
وقد تقدم الكلام على استراق السمع عند قوله تعالى: {وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم} في سورة الشعراء [210، 211]. اهـ.